عن كتابات الدكتور سيد القمني عن العهد القديم




عن كتابات الدكتور سيد القمني مؤخرا عن العهد القديم، هناك العديد من القضايا ولكني سأتعامل مع قضيتين هنا: ١. قضية علاقة العهد القديم بكتابات الشرق الأدنى القديم؛ ٢. علاقة الهوية السياسية بالهوية الدينية لدى المفسر الشرق أوسطي وخاصة في ظل السياق السياسي المعاصر.

١. أصاب الدكتور سيد القمني عندما أشار أن هناك العديد من أوجه التشابه في الفكر والأسلوب الأدبي بين كتابات العهد القديم وكتابات الشرق الأدنى القديم. فالعهد القديم يتشارك مع كتابات الشرق الأدنى القديم في الأسلوب والمضمون في بعض كتابات الشريعة، الحكمة، التأريخ، المزامير، الصلوات، الأساطير. بالطبع هذا الكلام صادم للقارئ المسيحي الذي يعتقد أن قيمة النص الكتابي تكمن في تمايزه فقط عن أي سياق تاريخي، والذي يعتقد بأن أي دور انساني بشري في تشكيل الكتاب المقدس يقلل من قيمته اللاهوتية. لكن علينا أن نتذكر أننا كمسيحيين نقبل كون يسوع المسيح انسانا كاملا فكم بالحري أن نقبل الدور البشري في النص الكتابي. فشعب اسرائيل لم يأت من المريخ؛ وكُتّاب العهد القديم تفاعلوا مع الشعوب المحيطة بهم، وبما أن النص الكتابي له طبيعة انسانية تاريخية فمن الطبيعي أن يتشارك النص مع سياقه وقرينته. على الجانب الآخرمن المتصل الفكري: من المثير للتساؤل أن يستخدم انسان علماني، مثل الدكتور سيد القمني، وهو الذي يقول إن هدفه هو راحة وفرح وسلام الإنسان  - وأنا أتشارك معه في هذا الهدف النبيل - إنسانية النص الكتابي ليقلل منه؟ إذا في كثير من الأحيان نجد أن الأصولية والليبرالية وجهان لعملة واحدة؛ فبينما تحاول الأصولية اللاهوتية التخلص من انسانية النص، تقلل الليبرالية من قيمة النص بسبب إنسانيته. بالنسبة لي فإن الدور البشري في النص الكتابي يتناغم مع الدور الإلهي في النص من أجل الشهادة عن إعلان الله عن ذاته في المسيح يسوع. هذا الإعلان يؤكد أن الله يريد التداخل والتشابك مع الواقع الإنساني في كل اوجهه، المبهجة والمحبطة، المقدسة والمدنسة، الآمنة والمؤلمة، المنظمة والفوضوية. بالإضافة إلى ذلك المنظور اللاهوتي عن النص الكتابي، فهناك مشكلة منهجية: فما لا يذكره الدكتور سيد القمني هو أن العهد القديم أيضا يتمايز عن قرينة الشرق الأدنى القديم في الفكر والأسلوب. المنهجية المعتدلة التي تدرس الأدب المقارن يجب أن تنظر إلى التشابه وإلى الإختلاف؛ فهؤلاء الكتاب لم يقوموا فقط بنقل فكر وأساليب الشعوب المحيطة بهم ولكنهم تعاطوا مع تقاليدهم اللاهوتية وتقاليد الشعوب المحيطة بهم بطريقة تخدم هدفهم اللاهوتي. ويتضح هذا حتى في المثال الذي سلط عليه الدكتور سيد القمني، فالعهد القديم ليس به توجه واحد عن قصة الخلق وعلاقة هذه القصة بهزيمة إله النظام لوحش الفوضى: فبينما لا توجد معركة بين إله النظام ووحش الفوضى في تكوين ١، يهزم يهوه لوياثان في مزمور ٧٤ قبل أن يتكلم النص عن تجديد الخليقة. وبينما يتكلم إشعياء ٢٧ عن الوحش كثعبان نجد أن حزقيال يتكلم عن الوحش كتمساح. كتبت رسالة الدكتوراة الخاصة بي والتي نشرت في كتاب عن مسخ مصر أو تشبيه مصر في سفر حزقيال بالوحش، لذا دعني أسلط بعض الضوء على تشبيه حزقيال لمصر بالوحش.
في اليوم الثاني عشر من الشهر العاشر للسنة العاشرة لسبي الملك يهوياكين (السابع من يناير 587 ق.م.)، خمسة أشهر بعد محاولة الملك حفرع في التدخل لتدعيم يهوذا ضد السبي البابلي (إرميا 37: 5)، وما يقرب من ستة أشهر قبل سقوط أورشليم للبابليين، قدم النبي حزقيال كلمته الأولى ضد مصر. يتوجه النبي برسالة خصومة لفرعون (حفرع؛ 589-570 ق.م.) ورسالة قضاء على مصر (29: 2). يعلن يهوه أنه ضد فرعون، التنين، الوحش، المسخ، الكبير الرابض في النيل. الكلمة العبرية (ت ن ي ن) والتي ترجمتها فاندايك-البستاني إلى تمساح تحمل أبعاد أو دلالات ميثولوجية. تشارك كتاب العهد القديم مع جيرانهم في أوغاريت (راس شمرا في سوريا) وبابل وأشور ومصر في الإعتقاد أن هناك خطر على النظام الإلهي للخليقة تم تجسيده في صورة وحش، أو مسخ، أو تنين. بحسب الأسطورة البابلية إينوماإليش هزم الإله "مردوخ" الأم "تيامات" ومن جسدها خلق السموات والأرض، وبهزيمته لتيامات التي جسدت مياه الفوضى الاولية أسس مردوخ ملكوته على بابل؛ وفي أوغاريت عندما هزم الإله بعل والإلهة عنات كل من "يم" (الذي تم تجسيده أحيانا على صورة وحش اسمه لوياثان) و "موت" أصبح للإله بعل مكانة مهمة في المحفل الإلهي؛ وإعتقد المصريون القدماء أن الإله "رع" هزم الوحش أو الثعبان "عبيب" كل ليله؛ وحافظ هذا الإنتصار على نظام الخليقة وسلطان الفرعون. إستخدم الكتاب المقدس نفس المفهوم من أجل الكلام عن سلطان يهوه (أنظر مز 74: 13؛ 89: 10؛ أي 7: 12؛ 40-41؛ إش 27: 1؛ دا 7؛ رؤ 13-14 إلخ). مثل الوحش أو التنين الفوضى التي تحدث سواء في الخليقة، الطبيعة، التاريخ، السياسة، الحياة الإجتماعية. حاول القدماء الكلام عن الظواهر التي يمرون بها بلغة ميثولوجية من أجل إضفاء نوع من السمو على الأحداث التاريخية التي يختبرونها في حياتهم. فالقدماء لم يفصلوا بين ما هو ميثولوجي وما هو تاريخي أو سياسي. أي نوع من أنواع الفوضى أو الخراب أو الدمار كانت تمثل لهم تمرد على إله النظام. وبالرغم من أن إله النظام هزم الوحش أو التنين من قبل إلا أن الفوضى لم يتم القضاء عليها  بصورة مطلقة لذا فهي تعاود في الرجوع لتهدد النظام الذي أسسه الإله. وآمن كتاب الكتابات الرؤيوية إن الإله سيهزم التنين قبل نهاية التاريخ (إش 27: 1؛ دا 7؛ رؤ 13-14 التنين في هذه النصوص يرمز إلى القوى المعادية لشعب الإله؛ أنطيخوس أبيفانس في دانيآل والإمبراطورية الرومانية في سفر الرؤيا). إستخدم كتاب العهد القديم صورة التنين للكلام عن مصر في أماكن مختلفة (حز 29: 3؛ 32: 2؛ إش 30: 7؛ 51: 9-10؛ مز 87: 3). شبه حزقيال مصر بالتنين لأن مصر تمثل تهديدا على هوية شعب إسرائيل، فمصر تجسد الفوضى التي تجعل إسرائيل تفقد هويتها المتميزة بعبادتها آلهة المصريين وتركهم لعبادة يهوه (راجع حز 8: 7-12؛ 20: 7-9؛ 23: 1-20). كان التحالف السياسي بالنسبة لحزقيال بمثابة علامة خارجية على فوضى داخلية داخل حياة إسرائيل الدينية التي تعطي مصر مكانة يجب أن يتركها الشعب ليهوه. من هنا نلاحظ أن حزقيال استخدم هذه الأسطورة (والاسطورة تختلف عن الخرافة، الأسطورة هي اسلوب ادبي ومنظور فكري يعكس فهم الإنسان لعلاقة الله بالخليقة) من أجل غرض لاهوتي معين في سياق تاريخي محدد. ومن الملاحظ أن العهد الجديد استخدم نفس الإطار الميثولوجي ليتكلم عن يسوع المسيح في أكثر من مناسبة: في تهدئة البحر (اليم)، في الإنتصار على الموت (العدو الأخير)، وكذلك في سفر الرؤيا حيث يهزم الله التنين والوحشين (رؤ 13-14؛ 20). نلاحظ هنا انه لا يوجد فصل بين العهد القديم والعهد الجديد فكلاهما يهتما بالعمل الإلهي الذي يسعى إلى استرداد الخليقة من الفوضى. 


٢. لا تتكلم النبوءات في العهد القديم عن أحداث مستقبلية تخص وقتنا المعاصر ولكنها تقدم رسالة لاهوتية في قرينة تاريخية علينا معرفتها وفهمها من أجل إعادة تقديمها للقارئ المعاصر. السؤال الذي يواجهنا كشرق أوسطيين هو كيف يمكن أن نقرأ نصوص العهد القديم في ضوء التطورات التاريخية والسياسية في بلادنا. كيف يمكن للبناني أن يقرأ نصوص ضد صور، ولأردني أن يقرأ نصوص ضد عمون، ولمصري أن يقرأ نصوص ضد مصر، ولفلسطيني أن يقرأ نبوءات ضد فلسطيا؟ يجب أن نأخذ في الإعتبار الإستمرارية والإختلاف بين المواقع الجغرافية القديمة والإثنيات القديمة لتلك الشعوب عن المواقع الجغرافية المعاصرة والشعوب المعاصرة. هناك العديد من التوجهات التفسيرية التي تبناها قراء العهد القديم عبر العصور تجاه هذه النصوص المسيئة للشعوب المحيطة بشعب اسرائيل. فهناك من يستخدم التفسير الرمزي أو الروحي لإعادة تدوير وتقديم النصوص للقراء في الكنيسة من أجل البناء الروحي. هذا التوجه لا يأخذ البُعد السياسي والتاريخي للنصوص على محمل الجد. وهناك من يتبنى منهجية رفض نصوص العهد العهد القديم بداعي أنها نصوص عنصرية؛ هذا الرفض قد يكون مباشر ومعلن أو غير مباشر حيث لا يتم قراءة هذه النصوص في العبادة في الكنيسة. هذا التوجه لا يتعامل مع كل نصوص الكتاب المقدس بنفس الدرجة من الأهمية. هناك من يقتنع بأن الشعوب المذكورة في العهد القديم ليس لها أي علاقة بالشعوب المعاصرة؛ وجهة النظر هذه تركز على الإختلافات التي تطرأ على الهوية وتُهمِل الإستمرارية بين القدماء والمعاصرين؛ طريقة التفكير هذه لا تتعامل بصورة مباشرة مع الدور الذي لعبه النص عبر العصور في تشكيل هوية جماعة الإيمان و تأثير النص الكتابي على أحداث العالم. المنظور الذي أقترحه يتبع العملية التفسيرية التي تتبنى المباديء التالية: 1. هذه النصوص وليدة لحظات تاريخية معينة وكان لها هدف في تشكيل هوية المستمعين والقراء؛ القرينة التاريخية للنصوص تدرس الدور الذي قامت به هذه النصوص في تشكيل الهوية والوعي الروحي واللاهوتي للمستمعين والقراء. 2. القارئ المعاصر لهذه النصوص لم يولد في فراغ ولا يقرأ النصوص من فراغ، بل إن القارئ عنده فرضياته المسبقة التي تأثرت بقرينته الشخصية والمجتمعية وتشكلت بتاريخ تفسير النصوص التي يستمدها القارئ من الوعظ والتعليم الكنسي وغير الكنسي؛ لذا فيجب على القارئ أن يراجع فرضياته المسبقة حيال قراءة نصوص العهد القديم. والأهم هو أن يسعى القارئ لإكتشاف كيف أثرت هذه النصوص على فهم القارئ لهويته وتشكيله الروحي والسياسي والإجتماعي. 3. هوية القارئ المسيحي الشرق أوسطي هي هوية هجين تجمع بين أبعاد مختلفة منها ما هو السياسي والديني والإجتماعي؛ من يرفض قراءة نصوص العهد القديم لانها عنصرية فهو يغلب الهوية السياسية على الجوانب الأخرى للهوية؛ ومن يقوم بروحنة النصوص فهو يحاول أن يفتدي الجانب الديني والروحي على حساب الجانب السياسي والإجتماعي. ما يحتاجه القارئ الشرق أوسطي المعاصر هو أن يحتفظ بالهوية بكل أبعادها (الإيمانية، السياسية، الإجتماعية إلخ) عند قراءة النصوص مع التركيز على الحاجة إلى نقد الذات حتى ما لا نشكل هويتنا على حساب وسلامة الآخر. التغلب على العنف والعنصرية التي قد نواجههما في النصوص لن يحدث عن طريق تبني عنف ضد النص وممارسة عنصرية ضده ورفضه لانه لا يتماشى مع ما نريد؛ فهذه النصوص تأتي إلينا من قرينة قديمة، قرينة غيرية تختلف عن قرينتنا، ويجب أن نتعامل مع النصوص كآخر أو غير. ومعظم كتابات الأنبياء خرجت من رحم شعب عانى من القهر الإمبريالي وهدفت رسالتهم لمحاولة إيجاد معنى للحياة والتاريخ من منظور لاهوتي. التغلب على الصعوبات التي نواجهها في النصوص والتغلب على من يسيء إستخدام النصوص للقضاء على الآخر يحدث عن طريق قراءة هذه النصوص وتفكيكها وتحويل طاقة العنف التي بها إلى فرص للكلام عن العدل والسلام، الحرية والخير والجمال. يتطلب هذا التوجه الذي يتبنى الهوية الهجين صراحة ومكاشفة يعترف فيها الإنسان بأن المصالحة تحدث عندما يعترف الإنسان أنه جزء من المشكلة وأنه جزء من الحل. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مزامير الإنتقام: صلاة المظلوم بحثا عن العدالة الإلهية

العبادة والعدالة الإجتماعية

عن الفكر اللاهوتي كحوار مفتوح: سفر أيوب كمثال