التحرير بين الرؤيا الإلهية والمسئولية البشرية




يؤكد سفر الخروج على أن الله يعمل من أجل خلاص المقهورين والمستضعفين من العبودية والظلم. ويرتكز هذا العمل الإلهي على أساسين محوريين في الفكر اللاهوتي الكتابي: الأساس الأول هو مقاصد الله المعلنة في الخليقة من حرية وكرامة وجمال وازدهار؛ والأساس الثاني هو علاقة العهد بين الله وشعبه والوعود التي قدمها للآباء. كانت إرادة الله للإنسان في الخليقة أن يتكاثروا، فإذ بفرعون يقتل الأطفال؛ وكانت إرادة الله للإنسان أن يشترك مع الله في السلطان على أجزاء من الخليقة، وإذ بفرعون يستعبد الشعب. فالعبودية ضد إرادة الله للخليقة وتشويه لها؛ وعمل الله الخلاصي يسعى  لتحرير ولإسترداد الخليقة للمقاصد الإلهية المعلنة في قصة الخلق. ولكن يوضح سفر الخروج أن هذا العمل التحريري يحدث عند إجتماع العديد من العوامل:
1. المقاومة الإنسانية: بالرغم من شدة الأنين والعبودية والمعاناة نجد أن هناك بوارق أمل تظهر على السطح بفضل ما قامت به مجموعة من النساء من عرقيات وخلفيات إقتصادية مختلفة. ففي سفر الخروج الأصحاحين الأول والثاني قامت مجموعة من النساء بعصيان مدني ضد السلطة التي أقرت بقتل كل الذكور. القابلتان، يوكابد (أم موسى)، مريم (أخت موسى)، ابنة فرعون (أم موسى بالتبني) وخادماتها قمن بدور محوري في إنقاذ موسى الذي سيقود الشعب من العبودية (خروج ١: ١٥-٢٢؛ ٢: ١-١٠). كل عمل حتى ولو قليل يقوم به الإنسان نحو الحرية هو عمل يشترك فيه الإنسان مع الله الذي يريد الحياة والكرامة لكل الخليقة.
2.الصراخ الإنساني: يذكر النص في خروج 2: 23-25 أن الله بدأ عمله التحريري والخلاصي عندما صرخ الشعب بسبب العبودية. حيث أن سفر الخروج يقدم الله على أنه إله علاقاتي يتجاوب ويتفاعل مع صراخ الشعب وأنينهم متذكرا عهوده مع الأباء.
3. الشراكة الإلهية الإنسانية: قام الله بدعوة موسى لقيادة الشعب من أرض مصر. فحدث الخروج كعمل إلهي يحتاج لأيد بشرية حتى ما يتحقق. لذا نجد في خروج 3 وهو النص الذي يهتم بوصف دعوة الله لموسى يقول الرب "إني علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم" (3: 7-8)، وفي ذات النص يقول الرب لموسى "والآن هوذا صراح بني اسرائيل قد أتى إلي ... فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي" (3: 9-10). أي أن سفر الخروج يريد أن يقول أنه على الرغم من أن الله قادر على عمل المعجزات والأشياء الخارقة للطبيعة إلا أن الله يعمل مع ومن خلال البشر الذين يقاومون الظلم والفقر.

يوضح سفر الخروج أن المشروع الإلهي لتحرير واسترداد شعبه بل والخليقة كلها هو عمل مستمر.
1. العناية الإلهية: يوجد فرق كبير بين أن يكون الإنسان حرا بصورة جسدية فقط و أن يكون الإنسان حرا في روحه وعقله. فعلى الرغم من أن الشعب قد خرج من مصر وقد تحرر من العبودية إلا أنهم ومع أول الصعوبات التي واجهوها  في البرية سرعان ما طلبوا من موسى وهارون العودة إلى العبودية والموت فيها. ففي سفر الخروج، الأصحاح السادس عشر، قال الشعب ليتنا متنا في مصر حيث كنا نجلس بجوار قدر اللحم وحيث كنا نأكل خبزا. إن الخوف من المستقبل محى المعاناة من ذاكرتهم وجعلهم يتوهمون ماض غير ذاك الذي عاشوه. بذلك يسلط النص الضوء على قضية ثقة الإنسان في أن الله الذي خلق وخلص قادر على أن يعتني بشعبه حتى في البرية. 
2. العبادة والحرية: من البداية للنهاية فإن السفر يتعامل مع الإنسان بصورة كلية شاملة لا تفصل بين ما هو روحي وما هو جسدي، بين العلاقة مع الله وباقي جوانب الحياة إقتصاديا، إجتماعيا، وسياسيا. ينظر الله المُحرر إلى الإنسان والواقع البشري كوحدة واحدة. عندما دعى يهوه موسى ليقود الشعب من العبودية إلى الحرية قدم له علامة أو آية ليدلل بها أنه هو من دعى موسى. هذه الآية نجدها في خروج ٣: ١٢، "تعبدون الله على هذا الجبل." الفعل العبري (ع ب د) "يخدم" أو "يعبد" هو نفس الجذر المستخدم للكلام عن العبودية لفرعون أو عبادة يهوه، الرب إله، اسرائيل. فالحرية هنا ليست فقط حرية "مِن" ولكن حرية "إلى." الخروج هو تحول من الولاء للسلطة التي تقهر الإنسان إلى ولاء للإله الذي يهتم بكرامة وقيمة الإنسان. إن الحضور الإلهي في وسط الشعب وتقديم الشعب للعبادة لله لا ينفصلا عن حرية الإنسان من القهر والظلم البنيوي الذي ينتهك حقوق الإنسان وكرامته. فحرية الشعب لا تكتمل إلا بعبادة الإله الحاضر في وسطهم؛ والعبادة لا يمكن أن تنفصل عن الحرية من القهر والظلم. يُعد موضوع الحضور الإلهي موضوعا أساسيا في السفر من بداية خروجهم من أرض مصر وحتى نهاية السفر حيث يحل يهوه، الرب إله اسرائيل، في خيمة الإجتماع في اليوم الأول من الشهر الأول معلنا عن حضور مجده المجدد للخليقة (انظر خروج ١٦: ٧؛ ١٧: ٧؛ ٣٣: ٢، ١٢-٢٣؛ ٢٥: ٨؛ ٤٠: ١-٢؛ ٣٤-٣٨). تشير العوامل المشتركة بين وصف خمية الإجتماع ووصف الخليقة في تكوين 1: 1-2: 4أ إلى أن خيمة الإجتماع هو صورة مصغرة للعالم الذي نظمه الله من الفوضى؛ وتأسيس الخيمة يوم السبت يوضح أن حفظ يوم السبت، الموجود أيضا في الخليقة، يبين أن راحة الرب وراحة الإنسان هي في علاقة الشركة المتمثلة في العبادة (تكوين 2: 1-4؛ خروج 35: 1-3). 
3. الهوية الأخلاقية لجماعة العهد: عندما تتلامس الحرية مع أعماق الإنسان فإن هذه الحرية تخلق هوية جديدة للإنسان. فيتحول هذا الإنسان إلى رسول للحرية. لذا نجد أن العديد من الوصايا مؤسسة على فكرة أن الله الذي حرر الشعب من العبودية ينتظر من شعبه أن لا يظلموا الفقير أو المسكين أو المهمشين وأن يصنعوا العدل وأن يرفضوا الرشوة وأن يرحبوا بالغريب (خروج ٢٣: ٦-٩). فالوصايا العشر ووصايا كتاب العهد أساسهم علاقة العهد بين الله وشعبه؛ بمقتضى العهد قام الله بإنقاذ الشعب من العبودية وبمقتضى العهد يأمر الله أن يطيعوا وصاياه، كرد فعل للخلاص الإلهي، حتى ما يكونوا أمة مقدسة ومملكة كهنوتية تجسد أمام العالم العدل والحرية كعطايا إلهية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مزامير الإنتقام: صلاة المظلوم بحثا عن العدالة الإلهية

العبادة والعدالة الإجتماعية

عن الفكر اللاهوتي كحوار مفتوح: سفر أيوب كمثال