العبادة والعدالة الإجتماعية





هل يمكنك أن تتخيل أن الله لا يقبل ترنيماتك أو صلواتك أو تهليلاتك؟ ما وقع هذه الفكرة عليك إن علمت أن الله يطلب منك أن تبعد عنه عبادتك وسجودك وابتهالاتك؟ ما الذي يدفع الله أن يرفض ما تعتقد أنت أنه يقربك منه؟ 


في القرن الثامن قبل الميلادي ملك يربعام الثاني على اسرائيل. وفي عصره تمتعت المملكة بإزدهار إقتصادي وإستقرار عسكري وسياسي. لكن على ما يبدو أن الإزدهار الإقتصادي حدث على حساب الفقراء. على الرغم من الفساد المادي والفوارق الإقتصادية الكبيرة بين أفراد الشعب الواحد إلا أن المتعبدين لم يكفوا عن الذهاب إلى الأماكن المقدسة ولم يتوقفوا عن تقديم العبادة بكافة أشكالها.  

وفي وسط هذه الفوضى الإجتماعية والروحية أقام الله نبيا اسمه عاموس. وكان هذا النبي منغمسا في السوق، حيث كان جاني جميز وراعي غنم. كشف عاموس عن الخلل الإقتصادي في المجتمع الإسرائيلي حيث إزداد الغني غنى و إزداد الفقير فقرا نتيجة للجشع والفساد والظلم في الأسواق والمحاكم. فيقول النبي "مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِ إِسْرَائِيلَ الثَّلاَثَةِ وَالأَرْبَعَةِ لاَ أَرْجعُ عَنْهُ، لأَنَّهُمْ بَاعُوا الْبَارَّ بِالْفِضَّةِ، وَالْبَائِسَ لأَجْلِ نَعْلَيْنِ. الَّذِينَ يَتَهَمَّمُونَ تُرَابَ الأَرْضِ عَلَى رُؤُوسِ الْمَسَاكِينِ، وَيَصُدُّونَ سَبِيلَ الْبَائِسِينَ" (عاموس 2: 7). وعن الغنى الفاحش في اسرائيل يتكلم النبي "الْمُضْطَجِعُونَ عَلَى أَسِرَّةٍ مِنَ الْعَاجِ، وَالْمُتَمَدِّدُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ، وَالآكِلُونَ خِرَافًا مِنَ الْغَنَمِ، وَعُجُولاً مِنْ وَسَطِ الصِّيَرةِ، الْهَاذِرُونَ مَعَ صَوْتِ الرَّبَابِ، الْمُخْتَرِعُونَ لأَنْفُسِهِمْ آلاَتِ الْغِنَاءِ كَدَاوُدَ، الشَّارِبُونَ مِنْ كُؤُوسِ الْخَمْرِ، وَالَّذِينَ يَدَّهِنُونَ بِأَفْضَلِ الأَدْهَانِ" (عاموس 6: 4-6). وما زاد الطينة بلة على الفقراء والمستضعفين في المجتمع أن القضاء كان فاسدا ولم يعطي الفقير حقه: إِنَّهُمْ فِي الْبَابِ يُبْغِضُونَ الْمُنْذِرَ، وَيَكْرَهُونَ الْمُتَكَلِّمَ بِالصِّدْقِ. لِذلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ تَدُوسُونَ الْمِسْكِينَ، وَتَأْخُذُونَ مِنْهُ هَدِيَّةَ قَمْحٍ، بَنَيْتُمْ بُيُوتًا مِنْ حِجَارَةٍ مَنْحُوتَةٍ وَلاَ تَسْكُنُونَ فِيهَا، وَغَرَسْتُمْ كُرُومًا شَهِيَّةً وَلاَ تَشْرَبُونَ خَمْرَهَا. لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ ذُنُوبَكُمْ كَثِيرَةٌ وَخَطَايَاكُمْ وَافِرَةٌ أَيُّهَا الْمُضَايِقُونَ الْبَارَّ، الآخِذُونَ الرَّشْوَةَ، الصَّادُّونَ الْبَائِسِينَ فِي الْبَابِ. لِذلِكَ يَصْمُتُ الْعَاقِلُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ لأَنَّهُ زَمَانٌ رَدِيءٌ." (عاموس 5: 10-13). أكثر ما أزعج النبي عاموس هو أن الشعب تظاهر بأن كل شئ على ما يرام: فهم يذهبون للمعابد لتقديم الذبائح والترانيم، ثم يذهبون للسوق ليظلموا الفقير وللمحاكم حتى ما يعوجوا القضاء. باتت فجوة كبيرة بين الحياة الروحية والحياة الأخلاقية، مما أنذر وكشف عن الخواء الروحي، فكل هذه العبادة كانت مظاهر خاوية غير مغيرة للحياة الأخلاقية للشعب. جاء النبي عاموس برسالة موجعة للشعب حيث أعلن أن الله يرفض مثل هذه العبادة: "بَغَضْتُ، كَرِهْتُ أَعْيَادَكُمْ، وَلَسْتُ أَلْتَذُّ بِاعْتِكَافَاتِكُمْ. إِنِّي إِذَا قَدَّمْتُمْ لِي مُحْرَقَاتِكُمْ وَتَقْدِمَاتِكُمْ لاَ أَرْتَضِي، وَذَبَائِحَ السَّلاَمَةِ مِنْ مُسَمَّنَاتِكُمْ لاَ أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. أَبْعِدْ عَنِّي ضَجَّةَ أَغَانِيكَ، وَنَغْمَةَ رَبَابِكَ لاَ أَسْمَعُ" (عاموس 5: 21-23).

وأمام هذا النقد اللاذع للشعب طلب الكاهن أمصيا من عاموس أن يعود إلى وطنه وأن يكف عن إنتقاد الملك. إلا أن النبي عاموس أكد للكاهن أمصيا أنه ليس نبيا من الأنبياء الذين يجلسون على مائدة الملك ويأكلون من أطايب الملك ليقولوا ما يريد الملك أن يسمعه. فالنبي لا يخاف من قول الحق في وجه من يملكون القوة. وبما أن النبي عاموس نفسه لم يصمت لذا يجب أن نفهم هذه الآية "لذلك يصمت العاقل في ذلك الزمان لانه زمان رديء" في سياقها على أنها كانت قول شائع عند بوابة المدينة، أي المحكمة. فعلى ما يبدو أن العديد من الناس لم يقبلوا ما كان يحدث من ظلم ولكنهم فضلوا السكوت حيال الظلم الإجتماعي والقضائي لانه كان شديدا أو لإنهم خافوا من دفع تكلفة المقاومة ومحاولة التغيير.

وعلى الرغم من أن معظم رسالة عاموس اتسمت بالدينونة إلا أنه كان هناك باب ضيق للرجاء. اعتمد هذا الرجاء في الأساس على صنع العدل والحق في السوق والمحكمة. يدعو النبي الشعب أن لا يذهبوا وراء أماكن العبادة. ثم يدعوهم أن يطلبوا الرب حتى ما يحيوا. ثم يوضح النبي أن طلب الرب معناه القيام بالعدل عند بوابة المدينة، أي المحكمة في ذلك الوقت، حيث كان يجلس شيوخ المدينة للبت في الخلافات المادية والإجتماعية بين الناس. "هكذا قال الرب لبيت اسرائيل اطلبوني فتحيوا. ولا تطلبوا بيت إيل وإلى الجلجال لا تذهبوا وإلى بئر سبع لا تعبروا"  "اطلبوا الرب فتحيوا " "اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا فعلى هذا يكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم. ابغضوا الشر واحبوا الخير وثبتوا الحق في الباب" (عاموس 5: 4، 6، 14-15). فالعبادة التي لا تشكل الشعب أخلاقيا حتى ما يصنعون العدل وحتى ما ينصفون المسكين هي عبادة خاوية ومرفوضة. والعلاقة بين الانسان وإلهه، تلك العلاقة المتمثلة في العبادة، لا تنفصل عن علاقة هذا الانسان ببقية الخليقة المحيطة به. لذا يقول النبي "وليجر الحق كالمياه والبر كنهر دائم" (عاموس 5: 24). فالحق والبر متلازمان في الفكر النبوي. البر هو أن يكون الإنسان في المكان الصحيح مع الله أما الحق فهو أن يكون الإنسان في المكان الصحيح في علاقاته مع من يحيطون به. أي أن العبادة والأخلاق لا ينفصلان.

هل أصبحت العبادة فرصة للإستهلاك الروحي ولتعميق الإنعزال عن المجتمع الذي نعيش فيه؟ كيف يمكن لك أن تصنع عدلا على المستوى الضيق الذي تعيش فيه؟ وكيف يمكن لك أن تقول الحق بالنيابة عن المستضعفين لمن يملكون القوة من حولك؟ هل العبادة لها معنى إن لم تفتتح أعيننا على الظلم المحيط بنا وإن لم تشجعنا على السعي للتغير؟ 




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مزامير الإنتقام: صلاة المظلوم بحثا عن العدالة الإلهية

عن الفكر اللاهوتي كحوار مفتوح: سفر أيوب كمثال