الاستبداد ليس جديدًا، والمقاومة كذلك!

قراءة في سفر الخروج 1-2



تقدم لنا افتتاحية سفر الخروج ملمحًا عن تشكل الاستبداد وكيف يمكن للمؤمنين بالكرامة الإنسانية أن يقاوموه. الاستبداد هو انفراد قمعي بالسلطة بغرض التحكم مستخدمًا الخوف والوحشية. ومع أن الاستبداد قد يبدو غير قابل للهزيمة، فإن الإيمان بأن الكرامة الإنسانية هي هبة إلهية يلهم طرقًا شجاعة وخلاقة لمقاومته. فسواء من خلال أساليب المواجهة أو التحايل على سياسات الاستبداد، يستخدم الله شركاءه من البشر ليفعّلوا إرادته لتحرير وخلاص الخليقة.
بداية تشكل الاستبداد والمقاومة:
يتشكل الاستبداد في أوقات التغيير والتحول، الوقت الذي يتصدر فيه الخوف المشهد وترتبك رؤية العالم فتسود لغة نحن وهم، الوقت الذي يسيء فيه المستبد (الفرعون في هذه الحالة) استخدام السلطة بغرض سلب الآخر (بنو إسرائيل ها هنا) إنسانيته. ومع أن الاستبداد يتغذى على كراهية المختلف والخوف من الغريب، ومع أنه يحاول السيطرة على الناس الذين خلقهم الله أحرارً ليعيشوا في كرامة، إلا أننا نجد أن العاملين من أجل الصمود والمقاومة والتغيير يبرزون في هذا الوقت. في هذا النص نقابل القابلات اللواتي كانت مخافة الله في قلوبهن أكبر من الخوف من الآخر كما رسخه الفرعون. نشهد أبوي موسى اللذان استمرا في الحياة بإيمان وحكمة في مواجهة العنف. ونفاجئ عندما نجد ابنة الفرعون وهي تستخدم قوتها ونفوذها لتعطل أسس الاستبداد من خلال إظهار تعاطف ودعم مدهشين تجاه المستضعفين.
يسجل كاتب النص ملحوظتين هامتين في سياق هذا الوقت من التغير والتحول. أولهما أن الإسرائيليين استمروا في الكثرة والإثمار (خروج ١: ٧). وكأن هذا تتميم لوصية الله لأول إنسانين "أثمروا واكثروا واملأوا الأرض" (تكوين ١: ٢٦-٢٨). ومع أن نمو بني إسرائيل كان منسجمًا مع غرض الله للخليقة، فإن الفرعون لم يرى هذا كبركة وإنما كتهديد. والتغيير الثاني الذي يركز عليه الكاتب هو ظهور فرعون جديد لم يكن يعرف يوسف (خروج ١: ٨).
إن قصة يوسف في تكوين ٣٧- ٥٠ تقدم نظرة إيجابية للعلاقة بين يوسف وبين الملك المصري، فيوسف هو من أنقذ مصر وكنعان من مجاعة شديدة. لكن في نفس الوقت، هناك ذكرى مساهمة يوسف في استعباد الفرعون للمصريين (تكوين ٤٧: ١٣- ٢٦). من العجيب أنه بعد أن استعبد يوسف المصريين للفرعون، نقرأ في الخروج أن الفرعون يستعبد الإسرائيليين. وأنا أرى أن عبارة " لم يعرف يوسف" لا تعني أن الفرعون لم يسمع أبدًا عن يوسف. إن الملك الجديد ينفرد بالسلطة من خلال عمله على محو أي صلاح يمكن "للآخر" (في هذه الحالة بنو إسرائيل) أن يقدمه، ومن خلال تقديمه لهم كمصدر للخطر ينبغي تحجيمه والسيطرة عليه.
ولتأسيس استفراده بالسلطة، يوظف الفرعون بعض الطرق التي يمكن للقارئ أن يستخلصها من كلماته. فأولاً، يؤطر الفرعون للعلاقة بين المصريين والإسرائيليين من خلال علاقة المقابلة بين "نحن مقابل هم". يستخدم الفرعون كلمات تشبه ما استخدمه كاتب النص للكلام عن بركات الإسرائيليين، إلا أن طرح الفرعون يقدم تحويرًا مهمًا: "لقد صاروا أكثر وأعظم منا!" (خروج ١: ٩). وثانيًا، يطرح الفرعون سيناريو حرب مفترضة، نوع من الصراع والتخوين بغرض إثارة مشاعر الخوف لدى مستمعيه (١: ١٠).
التفرقة، وصم الآخر كمصدر تهديد، إثارة الخوف من المستقبل كلها معًا تشكل وصفة مثالية يستخدمها المستبد للانفراد بالسلطة ولتسهيل العنف والقمع. إن استئثار الفرعون بالسلطة يجد دعمًا من أولئك الذين اقتنعوا بدعاياته المثيرة للخوف والتشكيك: أولئك الذين انخدعوا فقبلوا الاستماع إلى أفكاره الشريرة والمشاركة في مخططاته القمعية. وهكذا يبدأ الاحتيال أو التخطيط للأذى (خروج ١: ١٠) ليتحول إلى نظام سخرة قاس يهدف إلى كسر الإسرائيليين وتحويل حياتهم إلى مرارة لا تحتمل (خروج ١: ١١- ١٤).
الاستبداد غير منطقي وينقاد برؤية تقسم العالم إلى أضداد، بالخوف، بشيطنة الآخر وتشيئه. ولو فلتت الضحية من خطط المستبد المهلكة، فإن المستبد لا يستسلم وإنما يطور أساليب أكثر وحشية. كان كلما اضهد المصريون الإسرائيليين، كان هؤلاء ينمون وينتشرون أكثر (خروج ١: ١٢). إن عدم منطقية خطط الفرعون الاستبدادية تظهر في أوامره البشعة بقتل مواليد الإسرائيليين الذكور. لو كان الفرعون فعلاً يخشى أن ينضم الإسرائيليون لعدو مفترض قد يهاجم مصر، فلماذا لم يطردهم بداءة من أرض مصر (خروج ١: ١٠)؟ إن خوف الفرعون ليس أن يسيطر الإسرائيليون على المصريين، بل أن يهربوا من مصر. يبدو أن الفرعون كان يريدهم أن يستمروا من أجل العمل بالسخرة في مشاريعه المعمارية والزراعية. ومع هذا، لو كان يريد الاحتفاظ بهم كعمالة مُستعبدة، فلماذا يقوم بقتل الذكور من المواليد والذين يشكلون قوة عمل مستقبلية؟ ربما تكون روايتي السخرة وقتل المواليد من مصدرين مختلفين، لكن القصتان كما هما في النص الآن يشكلان دلالة على عدم معقولية استبداد الفرعون. لا يوجد تفسير منطقي للاستبداد المستند على الخوف، التخوين وكراهية الآخر. لكن أساس خطة الفرعون لمحو الآخر هش، ولذلك كان مقدرًا لخططه أن تفشل.
مقاومة الاستبداد
وإذ يزداد الاستبداد عنفًا، مهددًا حياة المواليد الجدد من بني إسرائيل، تبدأ معالم المقاومة في الظهور مبشرة ببعض الأمل. تبدأ مقاومة الاستبداد (كما نفهم من خروج ١- ٢) من حيث لم يتوقع، وبطريقة لم يتصورها ومن خلال أشخاص لم يعتبرهم أحد.
أمر الملك شفرة وفوعة، وهن قابلتين كانتا تساعدن نساء العبرانيين في الولادة، بأن يقتلن المواليد الذكور ويستبقين الإناث. إن شخصية القابلتين تركت مجهولة، وتاريخ التفسير يحمل آراء مختلفة عن كونهما من العبرانيات أو المصريات. على أية حال، تجاهلت القابلتين أوامر الفرعون واستبقينا مواليد الذكور العبرانيين. ويوضح كاتب النص أنهما وضعا نفسيهما موضع الخطر بتحدي أوامر الملك لأنهما كانتا تخافان الله. وعندما واجه الملك القابلتين، أخبرتاه أن نساء العبرانيين لسن كنساء المصريين. بينما أراد الفرعون التأكيد على الاختلاف العرقي بين العبرانيين والمصريين ليمرر تصوره عن المقابلة بين "هم ونحن"، قامت القابلتين باستخدام نفس المقابلة لصد مخططاته. إن الاختلاف هنا هو مصدر للحياة، وليس للموت كما تصور الفرعون. إن تصورات الفرعون عن التفوق العرقي والجنسي تم إضعافها بقوة نساء العبرانيين وقابلاتهن.
وبالإضافة إلى إضعاف دعاية الفرعون عن "نحن مقابل هم"، فإن قصة القابلتين تبين وجود العاملين على مقاومة الاستبداد، أولئك اللتان تسببتا في أن تستمر الحياة لأن خوفهما من الله كان أعظم من خوفهما من الاستبداد أو من الخوف الذي يروج له المستبد (خروج ١: ١٧). لقد كافئ الله شجاعة وصلاح القابلتين (خروج ١: ٢٠- ٢١). إن هذا هو أول ذكر لله في سفر الخروج، وهكذا نرى أن الله يأخذ جانب الحياة وكرامة الإنسان ويقف في صف من يدافعون عنهما. يأخذ الله صف المقهورين والمهمشين. يأخذ الله موقفًا واضحًا ضد الأفكار القمعية وأولئك الذين يروجون لها. من المثير أن نرى كيف ظهر الله في الصورة بسبب شجاعة نساء وقفن في وجه استبداد الملك. إن التحرير من القمع ليس مبادرة إلهية في هذا النص، إنما المبادرة في الحقيقة بدأت من عند الناس متمثلين في القابلتين اللتان ساهمتا في ولادة هذه الحقيقة الجديدة.
في هذه الأثناء، ولد موسى وتمت رعايته وحمايته. إن مقاومة الاستبداد في هذا المشهد تحدث على مستويات وطرق عدة. أحيانًا ما تكون أمور الحياة العادية كالزواج، إنجاب الأطفال أو اهتمام الشخص بعائلته هي طرق للمقاومة. عندما يحاول الاستبداد التهوين من قيمة الحياة أو يسعى لتفريق أفراد الأسرة الواحدة أحدهم عن الآخر، فإن أحد سبل المقاومة البسيطة والفعالة هي أن نستمر في ممارسة حياتنا الطبيعية. الوجود فعل مقاومة. ونحن نرى في هذا المشهد مقاربة مثيرة، فأم الصبي تستخدم نفس الوسيلة التي كانت من المفترض أن تكون أداة قتل الأطفال العبرانيين، نهر النيل، لإنقاذ طفلها. هناك سياقات يمكن فيها، ببعض الحكمة والشجاعة، تحويل الأدوات المستخدمة في القمع للتغلب على قوة الموت.
لكن الخطر لا يزال محدقًا، فها هي ابنة الحاكم الذي أصدر حكم الموت تكتشف وجود الصبي! لكن تحولاً مدهشًا يحدث عندما تتعاطف ابنة الفرعون مع الطفل العبري. إن التعاطف يتغلب على الفروقات العرقية والاجتماعية التي تفصل ما بين ابنة الفرعون وهذا الطفل. وبدلاً من أن تلقي بالطفل في النهر تنفيذًا لأمر أبيها، ها هي تعمل بنصيحة أخت الصبي في أن تجد للصبي مرضعة (أم الطفل بالطبع).
عندما يُقوي الاستبداد نفسه من خلال إثارة الخوف من المختلف عرقيًا، فإنه يمكن مقاومته من خلال أشخاص نافذين يتحدون هذه الدعاية الاستبدادية القائمة على "نحن ضد هم"، ومن خلال متعاطفين من داخل معسكر المستبد يستخدمون قوتهم للعبور فوق هذه الحدود المصطنعة ليقفوا بجانب المستضعفين من خارج دائرتهم. ولم تكن ابنة الفرعون هي وحدها من عبر الحدود في هذه القصة، فقد قامت أم الصبي واخته بمثل هذا العبور أيضًا الذي أدى أن واحدًا من أعظم قادة العبرانيين تربى في قصر الفرعون نفسه! إن هوية موسى المزدوجة كعبراني مصري تنقض رؤية الفرعون القائمة على "نحن مقابل هم". كما أن معاملة ابنة الفرعون الطيبة لموسى تظهر أنه لم يكن كل المصريين قساة. فها هي مصرية من الطبقة الحاكمة تتحدى قسوة الملك المصري وتدافع عن الحياة والكرامة الإنسانية.
وأخيرًا، وبينما كان الفرعون يستهدف الذكور العبرانيين، ظنًا منه ربما أن الإناث لن يقدرن على المقاومة، من المهم أن نلاحظ أن كل من عمل على مقاومة وحشيته كن من النساء: القابلتين، أم موسى وأخته، ابنة الفرعون وخادماتها. إن أولئك النسوة القادمات من خلفيات عرقية واجتماعية مختلفة أظهرن للفرعون (ويظهرن لنا اليوم) أن النساء قويات، شجاعات ومبدعات. لقد تغلبن على أحكام المستبد وقاومن الخوف بالفطنة، الحكمة والتعاطف. ليتنا جميعًا نتبع مثالهن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مزامير الإنتقام: صلاة المظلوم بحثا عن العدالة الإلهية

العبادة والعدالة الإجتماعية

عن الفكر اللاهوتي كحوار مفتوح: سفر أيوب كمثال