برج بابل ويوم الخمسين



هل كانت بلبلة الألسنة وتبديد البشرية عقاب إلهي أم عودة للقصد الإلهي الأساسي للجنس البشري؟

هل هناك تضاد بين ما حدث يوم الخمسين مع ما حدث في قصة برج بابل، أم أنهما يؤكدان على نفس القصد الإلهي؟

الاتجاه الأول لتفسير حادثة برج بابل هو التفسير التقليدي الذي ينظر إلى حادثة البرج على أنها تجلي آخر للعصيان البشري والدينونة الإلهية كما حدث في جنة عدن وفي قصة الطوفان. بحسب وجهة النظر هذه فإن عبارة "هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء" تدل على كبرياء الانسان الذي حاول أن يخلد اسما بعيدا عن الله؛ أما عبارة "هلم ننزل ونبلبل ألسنتهم" تدل على الدينونة الإلهية على هذا الكبرياء الإنساني. نموذج كلاسيكي لهذا التفسير نجده في كتابات القديس أغسطينوس، حيث كتب القديس في تفسيره لإنجيل يوحنا هذه الكلمات: "لإن الألسنة قد تشوهت بسبب الكبرياء، حيث صارت (اللغة) الواحدة (لغات) متعددة. لإنه بعد الطوفان قام المتكبرون ببناء برجا، حتى ما لا يتم تدميرهم مرة أخرى بطوفان، في حال حدوثه ثانية، في محاولة لتحصين أنفسهم ضد الله، ظنا منهم أنه يوجد شيء ما أعلى من الله، أو أنه يوجد شيء قادر أن يعطي الأمان للكبرياء." بحسب هذا التفسير فإن الخطية الانسانية هي الكبرياء على الله والمتمثل في بناء برجا، وأن العقاب الإلهي هو بلبلة الألسنة والتي نتج عنها تعدد اللغات، فبعد أن كان البشر يتكلمون لغة واحدة، صاروا يتكلمون لغات مختلفة؛ وبالتالي وبحسب وجهة النظر هذه، فإن تعدد اللغات، وبالتالي التعدد الثقافي، هو عقاب إلهي.

في العقود الأخيرة قام العديد من المفسرين (جاك دريدا، تيد هيبرتس، إلخ) بطرح الأسئلة حول هذا التفسير مقدمين شرحا مختلفا لهذه القصة. فبناء برج عظيم لا يعني بالضرورة كبرياء على الله، لكن المقصود من عبارة "برجا رأسه بالسماء" هو أن البرج عال جدا (أنظر تثنية 1: 28)؛ وكذلك فإن صناعة الاسم لا تشير للخلود ولكن تهدف إلى تكوين هوية موحدة للجماعة الانسانية. لاحظ العديد من المفسرين أن كل ما قاله البشر لأنفسهم يقود للعبارة الأخيرة في الآية الرابعة: "لئلا نتبدد على وجه الأرض." أي أن كل هذه المحاولات البشرية كان هدفها الأول والأخير هو المركزية. المركزية المكانية، المتمثلة في المدينة، صاحبها هيمنة لغوية وأخرى ثقافية. ويمكن اعتبار الطموح الانساني هذا مضاد للخطة الإلهية المعلنة عند الخلق حيث أمر الله الجنس البشري: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض" (تكوين 1: 28)، وهو نفس الأمر الذي أعطاه الله لنوح، آدم الجديد، بعد الطوفان: "أثمروا وأكثرو واملأوا الأرض" (9: 1، 7). بحسب هذا التفسير، إذا، إن كان هناك عصيان انساني هنا فهو يتعلق بقضية المركزية والهيمنة اللغوية والثقافية، وما قام به الله عندما بلبل ألسنتهم لم يكن عقابا، بل كان تصحيحا واستردادا للخليقة في الاتجاه الذي قصده الله منذ البدء: "بددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض" (11: 9). وتؤكد هذه المدرسة التفسيرية لقصة برج بابل أن التعدد اللغوي، التعدد الثقافي، ليس عقابا، ولكن هو غاية الله للخليقة.

من الملاحظ أنه يوجد تحول في قصة برج بابل، حيث كان يتكلم الجنس البشري بلسان واحد، أو كانت لهم لغة واحدة: "هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم" (11: 6) وانتهت القصة بتنوع في اللغات البشرية التي قصد منها الله أن لا يسمع أو لا يفهم بعضهم لسان بعض. أي أنه حتى وإن تم اعتبار التعددية هي القصد الإلهي منذ البدء إلا أن ثمة شيء ما قد أُخِذَ من الجنس البشري: القدرة على التواصل مع من يختلفون عنهم. كما تختلف آراء المفسرين عن معنى قصة برج بابل، فإن آرائهم تختلف أيضا حول العلاقة بين ما حدث عند برج بابل وما حدث يوم الخمسين حيث استطاع التلاميذ ومن معهم الكلام مع من يختلفون عنهم في اللغة والثقافة. فما هي العلاقة بين برج بابل وبين يوم الخمسين؟

وجهة النظر الأولى، التي تنظر لتعدد الألسنة على أنها عقاب إلهي ترى أن الله في يوم الخمسين قام بتغيير العقاب إلى بركة الألسنة التي أعطاها الروح القدس للتلاميذ، أي أن يوم الخمسين هو مضاد لبرج بابل. فعلى سبيل المثال كتب القديس أغسطينوس بعد شرحه لمعجزة يوم الخمسين: "يشير الروح القدس لهذا، كونه منقسما في الألسنة، ولكنه متحد في الحمامة. ... إن كان الكبرياء هو سبب تعدد الألسنة، فإن اتضاع المسيح وحد هذا التنوع في واحد. لسان واحد صار (ألسنة) كثيرة، لا تنبهر، انه عمل الكبرياء؛ ألسنة متنوعة صارت لسان واحد، لا تنبهر، انه عمل الاحسان." وفي نفس النهج نجد أن جون كلفن، وهو يرى أن تعدد الألسنة عقابا من الله، يطرح فكرة أن التواصل بين الأمم هو عطية إلهية صارت ممكنة بسبب يوم الخمسين: "أعلن الله انجيلا واحدا، بكل اللغات، في كل أرجاء العالم، فهو الذي وهب التلاميذ عطية الألسنة. لذا فإن هؤلاء الذين كانوا بؤساء في تفرقهم، التئموا في وحدة الإيمان."

المفسرون الذين ينظرون إلى التعددية في بابل على أنها تمثل القصد الإلهي منذ البدء ينظرون لحدث يوم الخمسين على أنه استمرارا لهذه الخطة الإلهية، فلا يوجد تضاد أو تناقض بين بابل ويوم الخمسين، ولكن هناك استمرارية. والدليل على هذا هو أن العالم في يوم الخمسين لا يعود إلى الهيمنة التي كانت حادثة قبل بناء البرج وقبل بلبلة الألسنة. لم يجعل الروح القدس كل الحاضرين يتكلمون لغة واحدة، ولكن الروح القدس قد مكن التلاميذ من الكلام مع كل الحضور كل واحد بلغته. فيوم الخمسين إذا يؤكد على التعددية اللغوية والثقافية على أنها عطية وقصد إلهي.

على الرغم من أن برج بابل يحتفي بالتعددية على أنها عطية إلهية، وليس عقابا، إلان أنه هناك شيء ما قد ضاع من المجتمع البشري في تلك الحادثة، القدرة على التواصل، وهي العقبة التي تم التغلب عليها يوم الخمسين. أي أنه في برج بابل انتقل المجتمع الانساني من جماعة ذات مركزية وهيمنة لغوية وثقافية، لجماعة متعددة الثقافات، ولكن يعلن يوم الخمسين أن الإنجيل يهدف إلى ما هو أعمق من التنوع والتعددية إلى التداخل اللغوي والفكري والثقافي. وكأن الروح القدس في عطيته للألسنة يخلق كنيسة من خلفيات ثقافية ولغوية متنوعة لتقدم نموذجا مختلفا للعالم الذي قد يتسم في أوقات كثيرة بالأحادية والهيمنة ورفض المختلف وإن تحسن فإنه يتسم باتنوع والتعددية دون التواصل والتداخل؛ فهدف الله للكنيسة من البداية هو أن تتسم بالتنوع والتعددية، اللغوية والثقافية، وبالتالي اللاهوتية؛ الأمر الذي نجده بوضوح في رؤيا يوحنا حيث يصور الكنيسة على أنها من كل قبيلة وأمة ولسان. بفضل القدرة على الترجمة، عطية الروح القدس للكنيسة، يقدم الإنجيل دعوة، ليست فقط للتعددية، ولكن للتفاعل اللغوي والثقافي، ففي وسط العداوات بين الثقافات والمعتقدات داخل الكنيسة، لا يدعونا الانجيل فقط لقبول الآخر والاختلاف داخل الكنيسة، ولكن للتفاعل مع الآخر، من خلال عطية وهبة الترجمة، أي القدرة على فهم لغة الآخر والتواصل من خلالها.
References
Augustine of Hippo, The Homilies on John, ed. James Innes and John Gibb, extended annotated ed. (Altenmünster: Jazzybee, 2012).

Theodore Hiebert, “The Tower of Babel and the Origin of the World’s Cultures,” Journal of Biblical Literature 126, no. 1 (2007).

Jacques Derrida,  «Des Tours de Babel» https://www.sas.upenn.edu/~cavitch/pdf-library/Derrida_Babel.pdf

Safwat Marzouk, Intercultural Church : A Biblical Vision in an Age of Migration (Fortress Press, 2019), 117-146.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مزامير الإنتقام: صلاة المظلوم بحثا عن العدالة الإلهية

العبادة والعدالة الإجتماعية

عن الفكر اللاهوتي كحوار مفتوح: سفر أيوب كمثال