تكوين 6-9 في سياق الشرق الأدنى القديم





1. قصص الطوفان الكتابية وقصص الطوفان في بلاد ما بين النهرين

الأمر الأول الذي يجب أن نتنبه له عند دراسة تكوين 6-9 هو أن تراث الشرق الادنى القديم إحتوى علي قصص عديدة عن نجاة مجموعة قليلة من البشر من طوفان مُهلِك. هناك قصتان مشهورتان من بلاد ما بين النهرين. القصة الأولى معروفة باسم بطلها، أتراخسيس. عندما قرر الإله إنليل تدمير البشرية لإن ضجيج البشر صار غير محتمل من الآلهة، فان الآلهة إيا وإنكي حذرا بطل القصة، أتراخسيس، من الطوفان القادم ونصحاه ببناء فلك كيما ينجو. كنوع من تحصين الفلك ضد المياه فإن أتراخسيس غطاه بالزفت حتى لا تتسرب المياه إلى داخل السفينة. بعد أن دخل أتراخسيس الفلك أغلق الباب؛ واستمرت العاصفة لمدة سبعة أيام وسبع ليال. بعد نهاية الطوفان قدم أتراخسيس ذبائح للآلهة.
      هناك قصة أخرى من بلاد ما بين النهرين عن نجاة شخصياتها الرئيسية من طوفان عن طريق سفينة. تدور أحداث هذه القصة حول البطل أوتنابيشتيم وزوجته. قصة نجاة أوتنابشتيم تعتبر جزءا من ملحمة جلجامش والتي تتكون من ١٢ لوح تم إكتشافها في ما يُعرف بمكتبة الملك الأشوري أشوربانيبال. في خضم رحلته للبحث عن معنى الحياة والموت، اكتشف جلجامش أن الموت هو مصير الانسان وأن الحياة والخلود هما للالهة فقط أو أنهما عطية إلهية لبعض من البشر. إبان قرار مجمع الآلهة بتدمير مدينة شوروباك بأكملها، فإن الإله إيا أنذر أوتنابشتيم عن الخطر المحدق، ناصحا اياه بأن يبنى فلكا من الخشب وأن يحصنه ضد الماء، على أن يكون الفلك على شكل مكعب، كل جانب فيه ١٢٠ ذراع، وعبارة عن سبع طوابق بهما ٦٣ غرفة. وكذلك أمره الإله إيا بأخذ "بذار الحياة من كل نوع" من البشر والحيوانات معه علي السفينة. بعد أن انتهت العاصفة والتي استمرت سبعة أيام إستقر الفلك علي جبل نيصير، وبعد سبعة أيام أرسل أوتنابشتيم يمامة، و سنونو، و غراب. بعد أن خرج من الفلك أوتنابشتيم قدم ذبائح للالهة التي "تنسمت الرائحة العطرة" وتم مكافئته بالخلود.
      يتضح لنا أنه لا توجد قصة واحدة توارثتها الحضارات عن طوفان مُهلِك، بل إن العديد من القصص والتقاليد قد تم تم الإحتفاظ بها من أجل مناقشة فكر فلسفي ولاهوتي في خضم البحث عن معنى الحياة والموت والخلود والعلاقة بين الإله والعالم. إهتم الكثير من دارسي كتابات الشرق الادنى القديم في تحديد العلاقة بين النصوص الكتابية عن الطوفان في تكوين ٦-٩ بنصوص الطوفان من بلاد ما بين النهرين المذكورة سلفا. فهناك من يعتقد في ان النصوص الكتابية إعتمدت إعتماد أدبي كبير على النصوص الاخرى، وهناك من يحاول أن ينفي عن القصة الكتابية أي علاقة أو صلة بقصص الشرق الادنى القديم. في رأيي إن الأمر لا يجب أن يقتصر على إعتماد كامل ولا استقلال كامل. فالنص الكتابي وليد حضارته وثقافته. واستخدم الكتاب ما يعرفونه من قرينتهم وغيروا وعدلوا وتبنوا وأعادوا صياغة وأختلفوا مع هذه التقاليد المحيطة بحسب ما يتماشى مع منظور وتصور شعب الله في العهد القديم عن من هو الله وما هي علاقة هذا الإله بالعالم. تشارك شعب الله في العهد القديم مع قرينتهم ولكنهم اختلفوا عن قرينتهم. فعلاقة العهد القديم بكتابات الشرق الادنى القديم هي علاقة معقدة ومركبة بها استمرارية وانقطاع، تشابه وتمايز. هذا لا يقلل من النص الكتابي ولكن يضفي عليه بعدا تجسديا حيث أن الفكر عن الله في الكلمة المكتوبة يرتبط بالقرينة الثقافية من لغة وأسلوب. يدعونا هذا التوجه نحو النص الكتابي إلى التفكير في العلاقة الدياليكتيكية بين الايمان والثقافة (الحضارة) فكلاهما يرتبطان بعضهما البعض ولكنهما في نفس الوقت في علاقة توتر وإختلاف.
     تتشابه هذه القصص مع القصص الكتابية في أن الاله يستخدم المياه للقضاء علي جزء من الخليقة؛ تتشابه أيضا في أن الإله يختار شخصا أو عائلة لتنجو من الطوفان عن طريق بناء فلكا؛ بعد أن ينتهي الفيضان فإن الفلك يستقر علي جبل؛ وفي النهاية يقدم البطل ذبائح للآلهة. قصة أوتنابشتيم جزء من عمل أدبي كبير، ملحمة جلجامش، والتي تبحث في معنى الوجود والحياة والموت، وقصة أتراخسيس تربط بين الخليقة والطوفان وبذلك يتفقا مع إهتمام سفر التكوين (١-١١) بالفكر اللاهوتي عن الخليقة وفساد الخليقة وتجديد الخليقة والموت والبقاء. ولكن قصة الطوفان في الكتاب المقدس تختلف عن قصص الطوفان في بلاد ما بين النهرين. يرجع هذا الإختلاف إلى أن قصص بلاد ما بين النهرين تفترض تعدد الآلهة، بينما في الوقت التي تم فيه كتابة التقاليد الكتابية عن الطوفان إعتنق شعب اسرائيل فكرة الوحدانية. بينما حصل أوتنابشتيم علي الخلود بعد نهاية الطوفان، نجد أن نوح وأسرته ومعهم الحيوانات أخذوا مسئولية تعمير الأرض. كذلك تتميز القصة الكتابية في التركيز على الطوفان كعقاب إلهي على خطايا البشر الأخلاقية. فهدف الطوفان في سفر التكوين يتمركز حول تفشي الفوضى الأخلاقية والرغبة الإلهية في تجديد الخليقة وبدء بداية جديدة.

2. المصادر المختلفة داخل تكوين 6-9
      يعتقد العديد من مفسري الكتاب المقدس أن قصة الطوفان في سفر التكوين (٦-٩) تتكون من تقليدين مستقلين تم دمجهم بمهارة بالغة عن طريق محرر مبدع في وقت ما بعد السبي البابلي، أي ما بعد عام 587 ق.م.. يُسمى التقليد الاول بالتقليد اليهوي، إشارة لاستخدامه للاسم الالهي "يهوه" الذي يتم ترجمته إلى "الرب". بحسب التقليد اليهوي فإن الطوفان قد حدث نتيجة نزول المطر الغزير (٧: ٤؛ ٨: ٢ب)؛ واستمر الطوفان لمدة ٤٠ يوما و ٤٠ ليلة (٧: ٤، ١٢، ١٧؛ ٨: ٦)؛ دخل الفلك سبع أزواج من الحيوانات والطيور الطاهرة، وزوج من الحيوانات غير الطاهرة (٧: ٢-٣)؛ لإن الحيوانات الطاهرة صالحة للأكل ولتقديم الذبائح، وهذا ما يفعله نوح بعد أن يخرج من الفلك (٨: ٢٠). أما التقليد الثاني وهو التقليد الكهنوتي، والذي عادة ما يستخدم الكلمة العبرية "إلوهيم" "الله" ليتكلم عن الإله، فإن الطوفان حدث نتيجة إطلاق سراح الماء، رمز الفوضى، والتي هيمن عليها الله عند الخليقة (٧: ١١؛ ٨: ٢أ)؛ واستمر الطوفان لمدة تقرب من العام، تم تقسيمها زمنيا، بحسب طبيعة المصدر الكهنوتي (٧: ١١، ٢٤؛ : ٣ب، ٤-٥، ١٣-١٤)؛ وبما أن التقليد الكهنوتي يفترض أن أكل اللحوم بدأ بعد الطوفان (٩: ٣)، وتقديم الذبائح بحسب التقليد الكهنوتي تم تأسيسه كجزء من العهد بين الله والشعب عند جبل سيناء (لاويين ١-٧)، لذا نجد أن عدد الحيوانات التي تدخل الفلك من كل أنواع الحيوانات زوج من الحيوانات الطاهرة وزوج من الحيوانات النجسة.

3. بعض الملامح اللاهوتية في تكوين 6-9 
      التقليدان اليهوي (٦: ٥-٨) والكهنوتي (٦: ١١-١٣) يجمعا على مجموعة من الحقائق اللاهوتية في مطلع القصة. الخليقة مستمرة في عنادها وتمردها على خالقها. رفض الخليقة للقصد الالهي لها يتم وصفه عن طريق تشخيص الحالة الروحية والاجتماعية للانسان كممثل عن الخليقة بأسرها. فالنص يصف الانسان على أنه: شرير (٦: ٥، النص يذكر شر الانسان مرتين في هذه الاية)، فاسد (٦: ١١، ١٢؛ فساد الانسان ينعكس على فساد الأرض)، العنف/الظلم (٦: ١١، ١٣). بسبب الشر والعصيان والفساد والظلم والقتل فان "كل من العالم والله حُرِما من شخصياتهم الحقيقية" (بروجمان، التكوين، ٧٦). في مقابل للعصيان والفساد الانساني نجد القرار الالهي بتدمير الخليقة التي تمردت على خالقها: "أمحو عن وجه الأرض" (٦: ٧؛ ٧: ٤، ٢٣)، "نهاية كل بشر قد أتت أمامي ... فها أنا مهلكهم مع الأرض" (٦: ١٣)، "فها أنا آت بطوفان ... لأهلك كل جسد" (٦: ١٧). لا يساوم الله على أغراضه للخليقة؛ الله غير متسامح مع التمرد على هذا الغرض. 
      تتميز هذه القصة في دعوتها للقاريء أن يتسلل إلى قلب الله (٦: ٦-٧). "لا نجد في هذه الايات طاغية غاضب، ولكن أب/أم مضطرب(ة) حزين على الإغتراب." قلب الإنسان المليء بالشرور (٦: ٥) يجلب الاضطراب لقلب الله (٦: ٦؛ بروجمان، التكوين، ٧٦). تُدخل هذه الايات القراء داخل أعماق المشاعر الإلهية تجاه الخليقة. المشاعر الإلهية التي يصفها النص الكتابي، ليست مشاعر غضب أو سخط، ولكن حزن وأسف. فمن المثير للإنتباه أن جذر الكلمة العبرية التي يستخدمها النص ليصف أسف القلب الالهي (٦: ٦) هو جذر الكلمة العبرية التي تصف الآلام التي عينها الله على المرأة بعد السقوط (٣: ١٦). قلب الله يتألم بسبب الفوضى والشر الذي في العالم. إن الله هنا مثله مثل المرأة التي على الرغم من الآلام إلا أنه هناك شيئا جديدا ينتج عن هذه الآلام.
      لا تحتوي القصة على الخطية الانسانية والدينونة الإلهية فقط، لكننا نجد في القصة بصيصا من الأمل يرتكز على النعمة الإلهية والإستعداد البشري للصمود ضد الشر (6: 5)، الفساد (6: 11-12)، الظلم (6: 11). فيذكر النص "أما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (6: 8)، ثم لاحقا يقول الكاتب "كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله. وسار نوح مع الله" (6: 9). هل وجد نوح نعمة في عيني الله لإنه كان انسان بار؟ أم أن نوح سار مع الله لإنه وجد نعمة في عيني الله؟ يوجد في النص تخالفا بين النعمة الإلهية، المبادرة الإلهية، والتجاوب والمسئولية الانسانية. يتضح أيضا في التقليدين الكهنوتي واليهوي الإلتزام الإلهي نحو الخليقة بأن الله لن يدين البشرية بهذه الطريقة مرة أخرى ولن يلعن الأرض بسبب خطية الانسان (8: 20-22)؛ وفي موضع آخر وبلغة تذكرنا بقصة الخلق في الأصحاح الأول من سفر التكوين، النص الذي ينتمي للتقليد الكهنوتي، يأمر الله البشر بأن يثمروا ويكثروا (9: 1؛ انظر 1: 28) الذين مازالوا على صورة الله (9: 6؛ 1: 26-27)، ويدخل الله معهم ومع كل الخليقة عهدا كونيا (9: 8-17). يوجد إذا نمطا في سفر التكوين الأصحاحات 1-11 وهو: خليقة - فساد الخليقة ودينونتها - تجديد الخليقة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مزامير الإنتقام: صلاة المظلوم بحثا عن العدالة الإلهية

العبادة والعدالة الإجتماعية

عن الفكر اللاهوتي كحوار مفتوح: سفر أيوب كمثال